التخطي إلى المحتوى الرئيسي

غربة «العكّاوي» في داره

رسم: أمل كعوش 

رشا حلوة
عُرف عن أهالي عكّا أشياء وعادات كثيرة تميزهم، منها ارتباطهم بالبحر، روح النكتة التي تغلب على حديثهم، لُحمتهم مع بعضهم البعض ومع المدينة، لهجتهم الخاصة والقَسم الموروث والحاضر على لسان كلّ عكّي، حين يقول: «وحياة غربتي!». كان الباحث الفلسطيني حسين لوباني قد دوّن في كتابه «معجم الألفاظ التراثية في فلسطين»: «العكّاوي إذا طلع برّاة السّور بيحلف بغربته». ويقول البوري وشبل في كتاب «عكا تراث وذكريات» (1994): «وحياة غربتي: يقولها العكّاوي إذا ابتعد 500 متر عن حدود مدينة عكّا، أو إذا صعد سطح البناية التي يسكنها».
لكن هنالك من لن يصعد سطــح البــناية التي يسكنها بعد، إثر انفجار لم تعرف أسباب حدوثه حتى الآن، في مبنى سكني قديم، ليلة السابع عشر من شباط، راح ضحيته خمسة مــن سكّانــه، هــم: محــمد بدر (43 عاماً) وزوجته حنان بدر (38 عاماً)، رايق سرحان (65 عاماً) وزوجته نجاح سرحان (51 عاماً) وابنهما نصر الدين سرحان (8 سنوات)، والذين برحيلهم المؤلم أصبح بإمكان العكّيين أن يقسموا «وحياة غربتي»، وهم داخل بيوتهم وفي زواريب المدينة.
لا حقائق واضحة تشير إلى سبب الانفجار الذي أيقظ المدينة. عكّا التي عُرف عنها أيضاً ذهابها إلى النوم باكراً، لم تنم في الساعات الأربع والعشرين التي تلت الانفجار، ولم ينم أهلها. لم يكن هذا هو توقيت البحث عن السبب، إنما كان وقت الحزن المحمّل بالغربة.. ووقت السؤال الواحد: «كيف يعقل أن نموت في بيوتنا؟ حين كنا نحميها ونحافظ عليها بأجسادنا..». هذه البيوت المهددة كلّ يوم بالسرقة، والتي كان أهلها ومفاتيحهم وتفاصيل البيت الداخلية والذكريات وأحاديث الجيران بين شبابيك البيوت هي فقط من يحاول أن يمسك حجراً آيلاً للسقوط، وأن يطرد الوحش ذاته المتربص عند عتبة البيت منذ أكثر من 65 عاماً.
الساعة السابعة صباحاً، ما زالت أعمال البحث عن ثلاثة مفقودين مستمرة، لم يكن سهلاً دخول المساعدات بداية إلى مكان الكارثة، حيث تركيبة عكّا وبيوتها، خاصة زواريبها التي لا يعرفها إلا من وُلد فيها. الكلّ يساعد بصمت، سلسلة بشرية ممتدة على طول الزاروب، سلسلة صامتة. المحال مغلقة. المدارس أعلنت إيقاف الدوام. الناس تمشي بصمت. «أول مرة بشوف عكّا هيك»، يصرّح العديد من أبنائها وبناتها وحتى من جاء من خارجها للتعازي والمواساة. كانت عكّا في هذا الصباح، المدينة التي تعيش بروح «قرية صيادين»، كأنها بحاجة إلى سبب للبكاء. كانت تبكي أبناءها. تبكي عليهم من الحزن والحسرة. كأنها تقول لهم: «إنتو البيوت، مش الحجر».
أثناء موعد الجنازة، عند الساعة الثامنة مساءً، تجمهر الناس داخل جامع الجزّار وفي ساحته، ومن بابه الخارجي إلى «البوابة الشرقية»، امتداداً على شارع صلاح الدين كلّه، من أهالي عكّا والقادمين من خارجها. عند تقاطع شارع جامع الجزّار مع شارع صلاح الدين، وقفت مجموعة من النساء العكّيات، وسألت إحداهن البقيـة: «فكــركو إذا صار خراب لا سمح الله عنا بالبيت بتفجر؟».. أجابتها الثانية: «لا خيتا، تخافيش». ستُعرف الأسباب بعد قليل، أو ربما لن تُعرف أبداً.. لكن ستعود عكّا لتواسي أبناءها كما اعتادت واعتادوا، منذ أن غنّوا لها: «واسي.. واسي.. واسي.. عكّا على راسي»، وستزيل عن جبينهم الخوف المؤقت، هي التي «لو بتخاف من هدير البحر.. ما سكنت جنبه».

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

عن "البحر بيضحك ليه؟" ومراحل الحياة..

عكّا، بعدسة: نادر هواري أغنية "البحر بيضحك ليه"، من كلمات الشّاعر نجيب سرور، ألحان وغناء الشّيخ إمام عيسى، هي الأغنية الملائمة لكلّ مراحل الحياة. لا يهم المرحلة إنّ كانت سعيدة أو حزينة، فيها أمل أو خيبة، قلق أو راحة، كلما سمعتها تشعر بأنها تُغنى لك. تحكي معك.. الأغنية لا علاقة لها لمن يعرف البحر أو لا يعرفه، سواء كان البحر قريبًا أو وبعيدًا.. هي قادرة أن تحمل لك مشاهد بصريّة مختلفة كلما سمعتها، تحمل معها وجوهًا عديدة وذكريات.. وكأنك كلما تسمعها تشعر بأن الزّمن توقف. لا يتحرك. كأن حالتك المرافقة لها حين سمعتها قبل 5 أعوام، مع ناس أو من غيرهم، تشبه حالتك حين تعيد سماعها اليوم، لوحدك أو مع آخرين.. والأجمل، بأنك تدرك تمامًا بأن حالتك هي، المرافقة لسماع الأغنية، تمامًا كما الملايين من عشاق الأغنية ذاتها. هي أغنية الطبطبة على الروح.. وحاملة المقولة الوجوديّة الأبديّة: ولسّه جوا القلب أمل.

أحد أطفال "كفرون"؛ يزن أتاسي: "نحنا ما منشبه بعض"

حاورته: رشا حلوة كان ذلك في العام 1990، حين قال له والده: "بدنا نروح مشوار"، لم يخبره إلى أين، "كنت رفيق أبي كتير وأنا وصغير، بروح معه على الشغل، وقالي رايحين مشوار، وبشكل طبيعي ركبنا بالسيارة، وصلنا على مكان قريب من مدرستي وفتنا على بناية، بكتشف بعد ما فتت إننا وصلنا على مكتب دريد لحّام"، يقول الفنان السوري يزن أتاسي في حوار خاص لمجلة "الحياة"، أجريناه عبر السكايب. ويزن أتاسي (1980) هو أيضاً "وسيم"، أحد الأطفال الذين مثلوا أدوار البطولة في فيلم "كفرون" لدريد لحّام، الذي سيتمحور معظم حديثنا عن تجربته فيه، التجربة الشخصية والفنّية لطفل في فيلم سوري، قبل 24 عاماً، كان لها أحد التأثيرات الكبرى على جيل كامل عاش طفولة التسعينيات. " هنالك معرفة بين دريد وأبي"، يقول يزن، "بس أنا انسطلت، لأنه أول مرة بحياتي بشوفه وجهاً لوجه، هني بحكوا وأنا مسحور لأني قاعد قدام غوار الطوشة!". بعدها خرجا من المكان، لا يذكر يزن الحديث الذي دار بين والده ودريد لحّام، ويعتقد أيضاً أنه كان قد قابل أخته نور أتاسي قبله، وهكذا وقع القرا

ريم بنّا.. التهليلة الفلسطينية الباقية

(رشا حلوة ) أذكر أني سمعت الفنانة الفلسطينية ريم بنّا لأول مرةٍ حين كان ربيعي يلامس العشرة أعوام، لا أعلم كيف وصل كاسيت "الحلم" إليّ، أو ربما لا أذكر. كان الوقت صيفًا في عكا، في غرفتي المطلة على البحر. أذكر بأني ناديت على أمي لتشاركني سماع الكاسيت، فسمعنا سويةً "يا ليل ما أطولك" وبكتْ أمي حين أخذتها التهليلة إلى كل الحنين الذي حملته معها منذ أن هُجّر أبوها من قريته الجليلية حتى ساعة انتظار العودة، التي طالت. ترتبط ريم بنّا في روحنا وذائقتنا بالتهليلة الفلسطينية والمورث الشعبي الفلسطيني. فهي أول من أعادت غناء وإحياء التهليلة الفلسطينية واحترفتها حتى يومنا هذا، بما في ذلك ضمن ألبومها الأخير "مواسم البنفسج- أغاني حُب من فلسطين"، والذي يحتوي على تهليلة "أمسى المسا"، المرفوعة إلى اللاجئين الفلسطينيين. بدأت ريم تهتم بالغناء التراثي الفلسطيني حين كانت لا تزال في المدرسة، يوم طُلب منها أن تحفظ أغاني تراثية لمهرجان تراثي في مدرستها، ونصحتها والدتها الشاعرة زهيرة صبّاغ أن تغني التهليلة الفلسطينية التي لم يغنّها أحد بعد. شعرتْ وقتئذٍ أن التهاليل تلائم صوتها