التخطي إلى المحتوى الرئيسي

عن مصر ويافا



رشا حلوة

قبل أن أبدأ بكتابة هذه التدوينة، يجب عليّ أن أعترف بإهمالي غير المقصود تجاه مدينة يافا، خاصة بأنني أعتبر أن جزءاً من واجبي تجاه هذه الأرض بناء علاقة وطيدة معها من كافة النواحي،
بما فيها خلق علاقة خارجة عن نطاق السياحة مع المدن والقرى والمساحات كلّها. لي مع يافا علاقة خاصة وأعترف، لكني لا أزورها باستمرار، فزيارتي لها مرتبطة دائماً بحدث ما يحملني إليها، بالرغم من أنها الأقرب إلى مدينتي عكّا، وكم يشعر الإنسان بالبيت في مُدن تشبهه.
خرجنا  أنا وصديقاتي يوم 12 شباط/ فبراير من حيفا باتجاه يافا، وبرج الساعة تحديداً، بعد الدعوة لإقامة تظاهرة فلسطينية؛ تضامناً مع فتيات ونساء مصر، وضد الإرهاب الجنسي الممارس ضدهن، كجزء من تظاهرات عديدة أقيمت في العالم العربي والعالم إجمالاً، والتي تمت بعد دعوة أولى من مجموعة «إنتفاضة المرأة في العالم العربي». استغرقت مسافة الطريقة ما يقارب الساعة ونصف، ولوّ أن الوصول إلى يافا لم يكن في ساعات أزمة السير، لأستغرق السفر أقل من ذلك بنصف ساعة تقريباً، وفي معايير المسافات المصرية، التاكسي من حيّ المقطم إلى المهندسين يستغرق نفس الوقت!
فور وصولنا إلى دوار الساعة، كانت قد وصلت مجموعة كبيرة من النساء والرجال، حاملين يافطات عديدة تندد بالإرهاب الجنسي المنظم ضد المرأة المصرية، بمرافقة شعارات صوتية، كأن المظاهرة تحدث الآن في ميدان التحرير أو في أي حيّ مصري. كان المشهد مؤثراً؛ أعلام مصر وفلسطين، صورة لنوال السعداوي، يافطة حملت بيت قصيد لنزار قباني، يافطة كُتب عليها: «إلنا الميدان وإلنا التحرير»، يافطة أخرى كُتب عليها: «من فلسطين إلى مصر، ألف تحية» وطفلة صغيرة تحمل يافطة كُتب عليها: «أنا متحرش إذاً أنا مش إنسان».
على مدار ساعة كاملة، وصل إلى برج الساعة العديد من الناس، من كلّ أنحاء الأراضي المحتلة عام 1948، هذا المكان الذي يشهد التظاهرات بشكل مستمر، ومنذ فترة يشهد يومياً المظاهرات لأجل الأسير سامر العيساوي. 
إن برج الساعة يعود تاريخه إلى الحقبة العثمانية في فلسطين، وهو واحد من 7 أبراج أقيمت في فلسطين؛ عكّا، حيفا، القدس، صفد، الناصرة ونابلس. ويعتبر «برج الساعة» أحد معالم الآثار المعمارية الإسلامية، الذي هدم الاحتلال الإسرائيلي العديد منها. ويطلق على الساحة أيضاً اسم «ساحة الشهداء»، كونها كانت شاهدة على الكثير من المظاهرات ضد الاستعمار والاحتلال، وكان قد سقط فيها العديد من الشهداء خاصة في عام 1948.
لماذا كان المشهد مؤثراً؟ لأن المظاهرة وصرختها هي ليست رمزية فقط، إنها أصوات النساء والرجال في يافا الفلسطينية المُحتلة التي وصلت نساء ورجال مصر على حدٍ سواء، ولأنها أثبتت لكلّ العالم أن سكة القطار التي كانت تبدأ من حلب مروراً في يافا ومن ثم إلى القاهرة والإسكندرية، لا زالت موجودة رغم أنف حراس الطرق الأنذال. ولأن مثل هذا الجيل من الشباب، الذي يصنع ثوراته في العالم العربي كلّ يوم يعرف بأن «الهمّ والحُلم» واحد، وأن التحرير هي قضية تخصنا كلنا، وأن تحرير الأرض من تحرير الإنسان. وأن الصرخة واحدة ضد الاحتلال والأنظمة الرجعية المتمثلة بوجوه عديدة على مرّ التاريخ. وبأن يافا، برغم الاحتلال والتهجير والهدم وسرقة البيوت والتهويد المستمر؛ لا زالت تتذكر وجه أم كلثوم الذي مرّ بجانبها، وبلا شك لا زالت تتذكر صوتها وأصوات المصريين الذين مرّوا هُنا، فأم كلثوم كما مصر، تقول لنا وليافا: «فضلت أعيش في قلوب الناس». 


تعليقات

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

عن "البحر بيضحك ليه؟" ومراحل الحياة..

عكّا، بعدسة: نادر هواري أغنية "البحر بيضحك ليه"، من كلمات الشّاعر نجيب سرور، ألحان وغناء الشّيخ إمام عيسى، هي الأغنية الملائمة لكلّ مراحل الحياة. لا يهم المرحلة إنّ كانت سعيدة أو حزينة، فيها أمل أو خيبة، قلق أو راحة، كلما سمعتها تشعر بأنها تُغنى لك. تحكي معك.. الأغنية لا علاقة لها لمن يعرف البحر أو لا يعرفه، سواء كان البحر قريبًا أو وبعيدًا.. هي قادرة أن تحمل لك مشاهد بصريّة مختلفة كلما سمعتها، تحمل معها وجوهًا عديدة وذكريات.. وكأنك كلما تسمعها تشعر بأن الزّمن توقف. لا يتحرك. كأن حالتك المرافقة لها حين سمعتها قبل 5 أعوام، مع ناس أو من غيرهم، تشبه حالتك حين تعيد سماعها اليوم، لوحدك أو مع آخرين.. والأجمل، بأنك تدرك تمامًا بأن حالتك هي، المرافقة لسماع الأغنية، تمامًا كما الملايين من عشاق الأغنية ذاتها. هي أغنية الطبطبة على الروح.. وحاملة المقولة الوجوديّة الأبديّة: ولسّه جوا القلب أمل.

أحد أطفال "كفرون"؛ يزن أتاسي: "نحنا ما منشبه بعض"

حاورته: رشا حلوة كان ذلك في العام 1990، حين قال له والده: "بدنا نروح مشوار"، لم يخبره إلى أين، "كنت رفيق أبي كتير وأنا وصغير، بروح معه على الشغل، وقالي رايحين مشوار، وبشكل طبيعي ركبنا بالسيارة، وصلنا على مكان قريب من مدرستي وفتنا على بناية، بكتشف بعد ما فتت إننا وصلنا على مكتب دريد لحّام"، يقول الفنان السوري يزن أتاسي في حوار خاص لمجلة "الحياة"، أجريناه عبر السكايب. ويزن أتاسي (1980) هو أيضاً "وسيم"، أحد الأطفال الذين مثلوا أدوار البطولة في فيلم "كفرون" لدريد لحّام، الذي سيتمحور معظم حديثنا عن تجربته فيه، التجربة الشخصية والفنّية لطفل في فيلم سوري، قبل 24 عاماً، كان لها أحد التأثيرات الكبرى على جيل كامل عاش طفولة التسعينيات. " هنالك معرفة بين دريد وأبي"، يقول يزن، "بس أنا انسطلت، لأنه أول مرة بحياتي بشوفه وجهاً لوجه، هني بحكوا وأنا مسحور لأني قاعد قدام غوار الطوشة!". بعدها خرجا من المكان، لا يذكر يزن الحديث الذي دار بين والده ودريد لحّام، ويعتقد أيضاً أنه كان قد قابل أخته نور أتاسي قبله، وهكذا وقع القرا

ريم بنّا.. التهليلة الفلسطينية الباقية

(رشا حلوة ) أذكر أني سمعت الفنانة الفلسطينية ريم بنّا لأول مرةٍ حين كان ربيعي يلامس العشرة أعوام، لا أعلم كيف وصل كاسيت "الحلم" إليّ، أو ربما لا أذكر. كان الوقت صيفًا في عكا، في غرفتي المطلة على البحر. أذكر بأني ناديت على أمي لتشاركني سماع الكاسيت، فسمعنا سويةً "يا ليل ما أطولك" وبكتْ أمي حين أخذتها التهليلة إلى كل الحنين الذي حملته معها منذ أن هُجّر أبوها من قريته الجليلية حتى ساعة انتظار العودة، التي طالت. ترتبط ريم بنّا في روحنا وذائقتنا بالتهليلة الفلسطينية والمورث الشعبي الفلسطيني. فهي أول من أعادت غناء وإحياء التهليلة الفلسطينية واحترفتها حتى يومنا هذا، بما في ذلك ضمن ألبومها الأخير "مواسم البنفسج- أغاني حُب من فلسطين"، والذي يحتوي على تهليلة "أمسى المسا"، المرفوعة إلى اللاجئين الفلسطينيين. بدأت ريم تهتم بالغناء التراثي الفلسطيني حين كانت لا تزال في المدرسة، يوم طُلب منها أن تحفظ أغاني تراثية لمهرجان تراثي في مدرستها، ونصحتها والدتها الشاعرة زهيرة صبّاغ أن تغني التهليلة الفلسطينية التي لم يغنّها أحد بعد. شعرتْ وقتئذٍ أن التهاليل تلائم صوتها